كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد امتن الله جل وعلا على الإنسان بأننه جعل له آلة البيان التي هي اللسان والشفتان، وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد: 8- 9].
{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)}.
الحسبان: مصدر زيدت فيه الألف والنون، كما زيدت في الطغيان والرجحان والكفران، فمعنى بحسبان أي بحساب وتقدير من العزيز العليم وذلك من آيات الله ونعمه أيضًا على بني آدم، لأنهم يعرفون به الشهور والسنين والأيام، ويعرفون شهر الصوم وأشهر الحج ويوم الجمعة وعدد النساء اللاتي تعتد بالشهور، كاليائسة والصغيرة والمتوفى عنها.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحًا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَاءً والقمر نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق يُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس: 5].
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {فَمَحَوْنَآ آيَةَ الليل وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} [الإسراء: 12].
{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)}.
اختلف العلماء في المراد بالنجم في هذه الآية، فقال بعض العلماء: النجم هو ما لا ساق له من النبات كالبقول، والشجر هو ما له ساق، وقال بعض أهل العلم: المراد بالنجم نجوم السماء.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي صوابه أن المراد بالنجم هو نجوم السماء، والدليل على ذلك أن الله جل وعلا في سورة الحج صرح بسجود نجوم السماء والشجر، ولم يذكر في آية من كتابه سجود ما ليس له ساق من النبات بخصوصه. ونعني بآية الحج قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر} [الحج: 18] الآية.
فدلت هذه الآية أن الساجد من الشجر في آية الرحمن هو النجوم السماوية المذكورة مع الشمس والقمر في سورة الحج، وخير ما يفسر به القرآن القرآن، وعلى هذا الذي اخترناه، فالمراد بالنجم النجوم، وقد قدمنا الكلام عليه في أول سورة النجم وأول سورة الحج، وذكرنا أن من الشواهد العربية لإطلاق النجم وإرادة النجم قول الراعي:
فباتت تعد النجم في مستحيرة ** سريع بأيدي الآكلين جمودها

وقول عمرو بن أبي ربيعة المخزومي:
أبرزها مثل المهاة تهادى ** بين خمس كواعب أتراب

ثم قالوا تحبها قلت بهرا ** عدد النجم والحصا والتراب

وقوله في هذه الآية الكريمة: {يَسْجُدَانِ} قد قدمنا الكلام عليه مستوفى في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بالغدو والآصال} [الرعد: 15].
{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)}.
قوله: والسماء رفعها قد بينا الآيات الموضحة له في سورة ق في الكلام على قوله: {أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السماء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [ق: 6] الآية.
وقوله: {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}، قد قدمنا الكلام عليه في سورة الشورى في الكلام على قوله تعالى: {الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق والميزان} [الشورى: 17] الآية.
{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {أَوْفُواْ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152]، وذكرنا بعضه في سورة الشورى.
{وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية أنه وضع الأرض للأنام وهو الخلق، لأن وضع الأرض لهم على هذا الشكل العظيم، القابل لجميع أنواع الانتفاع من إجراء الأنهار وحفر الآبار وزرع الحبوب والثمار، ودفن الأموات وغير ذلك من أنواع المنافع، من أعظم الآيات وأكبر الآلاء التي هي النعم، ولذا قال تعالى بعده: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13].
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من امتنانه جل وعلا على خلقه بوضع الأرض لهم بما فيها من المنافع، وجعلها آية لهم، دالة على كمال قدرة ربهم واستحقاقه للعبادة وحده، جاء موضحًا في آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين} [الرعد: 3] الآية، وقوله تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولًا فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ} [الملك 15] الآية.
وقوله تعالى: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا والجبال أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 30- 33] وقوله تعالى: {والأرض فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الماهدون} [الذاريات: 48] وقوله تعالى: {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة: 22] الآية.
وقوله تعالى: {والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وذكرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السماء مَاءً مُّبَارَكًا} [ق: 7- 9] الآية.
وقوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعًا} [البقرة: 29] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فِيهَا فَاكِهَةٌ} أي فواكه كثيرة، وقد قدمنا أن هذا أسلوب عربي معروف، وأوضحنا ذلك بالآيات وكلام العرب.
وقوله: {والنخل ذَاتُ الأكمام} ذات أي صاحبة، والأكمام جمع كم بكسر الكاف، وهو ما يظهر من النخلة في ابتداء إثمارها، شبه اللسان ثم ينفخ عن النور، وقيل: هو ليفها، واختار ابن جرير شموله للأمرين.
وقوله: {والحب} كالقمح ونحوه.
وقوله: {والحب ذُو العصف}، قال أكثر العلماء: العصف ورق الزرع، ومنه قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} [الفيل: 5] وقيل العصف: التبن.
وقوله: {والريحان}: اختلف العلماء في معناه، فقال بعض أهل العلم: هو كل ما طاب ريحه من النبت وصار يشم للتمتع بريحه. وقال بعض العلماء الريحان: الرزق، ومنه قول النجم بن تولب العكلي:
فروح الإله وريحانه ** ورحمته وسماء درر

غمام ينزل رزق العباد ** فأحيا البلاد وطاب الشجر

ويتعين كون الريحان بمعنى الرزق على قراءة حمزة والكسائي، وأما على قراءة غيرهما فهو محتمل للأمرين المذكورين.
وإيضاح ذلك أن هذه الآية قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم: {والحب ذُو العصف والريحان} بضم الياء والذال والنون من الكلمات الثلاث، وهو عطف على {فاكهة} أي فيها فاكهة، وفيها الحب إلخ، وقرأه ابن عامر: {والحب ذُو العصف والريحان}، بفتح الباء والذال والنون من الكلمات الثلاث، وفي رسم المصحف الشامي ذا العصف بألف بعد الذال، مكان الواو، والمعنى على قراءته: وخلق الحب ذا العصف والريحان، وعلى هاتين القراءتين، فالرحان محتمل لكلا المعنيين المذكورين.
وقراءة حمزة والكسائي بضم الباء في {الحب} وضم الذال في {ذو العصف} وكسر نون {الريحان} عطفًا على {العصف}، وعلى هذا فالريحان لا يحتمل المشموم لأن الحب الذي هو القمح ونحوه صاحب عصف وهو الورق أو التبن وليس صاحب مشموم طيب ريح.
فيتعين على هذه القرءاة أن المراد بالعصف ما تأكله الأنعام من ورق وتبن، والمراد بالريحان ما يأكله الناس من نفس الحب، فالآية على هذا المعنى كقوله: {مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 33] وقوله تعالى: {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ} [السجدة: 27]. وقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شتى كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ} [طه: 53- 54] وقوله تعالى: {لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون} [النحل: 10- 11] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {فِيهَا فَاكِهَةٌ} ما ذكره تعالى فيه من الامتنان بالفاكهة التي هي أنواع، حاء موضحًا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى في سورة الفلاح {لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون: 19] وقوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] إلى غير ذلك من الآيات.
وما ذكره هنا من الامتنان بالحب جاء موضحًا في آيات أخر، كقوله تعالى: {فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحصيد} [ق: 9]، وقوله تعالى: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس: 27- 28] وقوله تعالى: {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس: 33]، وقوله تعالى: {نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا} [الأنعام: 99] الآية. وقوله تعالى: {إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى} [الأنعام: 95] إلى غير ذلك من الآيات.
وما ذكره تعالى هنا من الامتنان بالنحل، جاء موضحًا في آيات كثيرة كقوله تعالى: {والنخل بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ} [ق: 10- 11]، وقوله تعالى: {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [المؤمنون: 19] الآية، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وما ذكره هنا من الامتنان بالريحان، على أنه الرزق كما في قراءة حمزة والكسائي، جاء موضحًا في آيات كثيرة أيضًا كقوله تعالى: {هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السماء رِزْقًا} [غافر: 13] وقوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السماء والأرض} [يونس: 31] الآية، وقوله تعالى: {أَمَّنْ هذا الذي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [الملك: 21] وقوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات} [غافر: 64] الآية، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
مسألة:
أخذ بعض علماء الأصول من هذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات كقوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعًا} أن اأصل فيما على الأرض الإباحة، حتى يرد دليل خاص بالمنع، لأن الله امتن على الأنام بأنه وضع لهم الأرض، وجعل لهم فيها أرزاقهم من القوت والتفكه في آية الرحمن هذه، وامتن عليهم بأنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا في قول: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعًا} [البقرة: 29].
ومعلوم أنه جل وعلا لا يمتن بحرام إذ لا منة في شيء محرم، واستدلوا لذلك أيضًا بحصر المحرمات في أشياء معينة في آيات من كتبا الله، كقوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} [الانعام: 145] وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] الآية. وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] الآية.
وفي هذه المسألة قولان آخران.
أحدهما: أن الأصل فيما على الأرض التحريم حتى يدل دليل على الإباحة، واحتجوا لهذا بأن جميع الأشياء مملوكة لله جل وعلا، والأصل في ملك الغير منع التصرف فيه إلا بإذنه، وفي هذا مناقشات معروفة في الأصول، ليس هذا محل بسطها.
القول الثاني: هو الوقف وعدم الحكم فيها بمنع ولا إباحة حتى يقوم الدليل، فتحصل أن في المسألة ثلاثة مذاهب: المنع، والإباحة، والوقف.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي صوابه في هذه المسألة هو التفصيل، لأن الأعيان التي خلقها الله في الأرض للناس بها ثلاث حالات:
الأول: أن يكون فيها نفع لا يشوبه ضرر كأنواع الفواكه وغيرها.
الثانية: أن يكون فيها ضرر لا يشوبه نفع كأكل الأعشاب السامة القاتلة.
الثالثة: أني كون فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى، فإن كان فيها نفع لا يشوبه ضررن فالتحقيق حملها على الإباحة حتى يقوم دليل على خلاف ذلك لعموم قوله: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعًا} [البقرة: 29]. وقوله: {والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن: 10] الآية.